ما زالت جمانة ابنة الستة عشر عامًا ماثلة في ذهني بوضوح، كنتُ آنذاك قد حسَمت موضوع التخصص الجامعي الذي سوف أختاره بعد ثلاثة أعوام، وبدأت فعلًا اتخذ كل خطواتي اليومية وفقًا لذلك الاختيار، صرتُ أقرأ أكثر في كتب الأدب المترجم، أشاهد الأفلام الكلاسيكيّة، أصغي بانتباه وشغف أثناء حصص الإنجليزي، وأُمضي الساعات الطويلة في ترجمة نصوص المقرّر المدرسي وكتابة فقرات قصيرة بالإنجليزية، كان واضحًا لكل من يتابع ذلك المشهد أن التخصص الجامعي الذي سأدرسه هو الترجمة.
لظروفٍ عدّة لم يتح لي أن أباشر دراستي الجامعية بعد الثانوي مباشرة، إلا أنني أمضيتُ العامان التاليان للثانوية مُتمسّكةً برغبتي تلك، أستحضرها كل يوم وأملأ فراغ أيامي بما يُرسّخها في عقلي وقلبي، فعملتُ معلمة للغة الإنجليزية في نادٍ للأنشطة الغير منهجية، ثم معلمةً للمرحلة التمهيدية في مدرسة عالمية، حتى حان موعد قبولي في الجامعة في منتصف العام الدراسي، ذهبت إلى قسم القبول والتسجيل ليصفعني الرد: "تخصّص الترجمة الذي تريدين لا يبدأ إلا مع بداية العام الدراسي" أكملت موظفة القبول والتسجيل كلامها وكأنها تمنحُني عرض العمر: "بس ترى فيه إدارة أعمال إذا ودك تبدين الحين!" ابتعلتُ غصتي، لا بأس! لننتظر فصلًا دراسيًا آخر لأجل الرغبة الأثيرة!
باشرتُ دراستي في العام التالي، دراستي المؤلفة من خمسة أعوامٍ إحداها عامٌ تحضيري، ما يعني أن أتخرّج من الجامعة وعمري 25 عامًا، ولكن لا بأس! أن تصل متأخرًا خيرٌ من أن لا تصل بالمرة!
مع مطلع هذا العام بدأت أعمل بالإضافة إلى دراستي، عملي هذا يشتمل على عدة مهام منها كتابة محتويات ثقافية وأخرى تسويقية، إعداد تقارير، البحث عن مواد محددة، .. إلخ، أستطيع أن أعدّ عملي هذا بمثابة "المصافحة الأولى" لسوق العمل، والتي أتاحت لي اكتشاف الوظائف الأعلى طلبًا فيه، ومع الأيام بات يتضح لي بشكل صارخ أن ما اخترته تخصّصًا دراسيًّا لا يتقاطع مع احتياجات سوق العمل، وأن الاحتياج للترجمة -إن وُجِد- فيمكن لغير المتخصصين تلبيته، والأنكى من ذلك هو استفحال الترجمة الآلية التي تكاد تقضي على سوق المترجمين.
منذ ذلك الحين لم يعد الموضوع "لا بأس" بالنسبة لي. بدأت وردية أحلامي تستحيلُ إلى لون رمادي باهت، وباتت دوافعي التي برّرت بها اختياري طيلة هذه السنوات تبدو واهية، ماذا يعني أن أكون جسرًا للوصل بين الحضارات في حضرة مترجم "قوقل"؟ وما أهمية أن أمنح الكلمات أجنحةَ تسافر بها في حين أنه لا يوجد من سيقرأها إلا النزر القليل من الناس؟ صار واضحًا لدي أن سوق العمل الذي يستقطبُ خريجي الحاسب والإدارة والتسويق، لا تعنيه قدراتي الفذّة في وصف المعنى في بطن شكسبير!
هذا الخيار الذي أمضيتُ عمرًا وأنا أنتظره، وجدتُ أن سوق العمل ببساطة لم يكن ينتظره..
وساهم في مفاقمة شعوري هذا العودة للدراسة حضوريًّا وملاحظتي لقلة عدد الطالبات في كلّيتي مقارنة بباقي الكليات التي تعجّ بالطالبات المتحمسات -خصوصًا كلية إدارة الأعمال التي رفضتها سابقًا بكل إصرارٍ وتصميم-، وأستطيع الآن أن أتفهّم تعابير التعجب في وجه موظفة القبول والتسجيل حين قلت لها: أريد كلية اللغات والترجمة، ثبّتي اسمي هناك من فضلك.
أفهم تمامًا أن سوق العمل لم يتغير فجأة، ولا أنكر أني كنت على علمٍ باحتياجاته منذ كنت طالبة في الثانوية، لكني لا أذكر ولا للحظة أني كنت مهتمةً بتلبية متطلّباته، بل كنت بكل ثقة أردّد أني سوف أدرس ما أحب! فما الذي حدث الآن؟ لم صرتُ فجأة أقيم اختياراتي بناءً على قيمتها في سوق العمل؟
وفيما أنا أواجه صراعاتي هذه، صادفتُ هذه التدوينة على مدونة نجم، كانت تتحدث بشكل رئيسي عن خطر ربط الرضا عن الذات بالإنجازات المهنية، وعن أثر النظام الاقتصادي النيوليبرالي في كونه أصبح "يُسلّع" كل شيء، حرفيًا كل شيء، حتى وصل إلى تسليع الإنسان واختياراته بناء على قيمتها في السوق ومدى قوة "العرض والطلب" عليها.
والشاهد من هذه التدوينة والذي أحب أن اقتبسه هنا:
" ولأن الركيزة الأساسية في هذا النظام هو تسليع/خصخصة أي شيء بحيث يكون رافدا ربحيًا، فإن الإنسان ليس استثناءً لذلك. فقد أصبح الغرض الأساسي لحياة الفرد الآن هو أن يكون رجل أعمال نفسه وأن يدير حياته كما لو كانت شركة تجارية. إن انعكاس هذا المفهوم في لغتنا اليومية أصبح مقبولًا ومنطقيًا كالاستثمار وتطوير الذات باكتساب المهارات والهوية الشخصية (البراند الشخصي)، أما الاستثمار في الذات من أجل الرفع من القيمة الاقتصادية (المربوطة لا إردايًا بالقيمة الذاتية) فقد أصبح هاجس الكثير، وغدونا نسأل عن المهارات التي يجب أن نطورها لكي نتماشى مع طلب السوق، وكيف نستثمر أوقاتنا حتى نكون أكثر انتاجية، وكيف نختار التخصص الجامعي بناء على مستقبل السوق والعديد من الأسئلة الأخرى.
أصبحنا بشكل لا إرادي نربط كل ما نقوم به بقيمة اقتصادية، أي إذا لم نعمل شيئا ذا قيمة منعكسة في السوق فقد يصعب علينا تحديد معناه أو قيمته. نستطيع القول أن النيوليبرالية كأيدلوجية مسيرة للعالم قد تمكنت من تجسيد جوانب حياتنا بخطاب مادي / “بزنسي”."
هذه التدوينة أضاءت لي جوانب معتمة من نفسي، وبررت لي هذا القلق والشك الذي راودني حول تخصصي نتيجة احتكاكي بسوق العمل مؤخرًا.
الآن، مازلت في سعيٍ للعثور على أرض صلبة أقف عليها وميزانٍ أقيم اختياراتي وفقًا له، في ذات الوقت، أجد الحل موجودًا وجليّا لدى جمانة القديمة: جمانة التي كانت تُمضي ساعات في ترجمة قطعة من كتاب المقرر المدرسي لأنها فقط تريد أن تفهمها! جمانة تلك كانت مستعدةً أن تدفع من عمرها كل الوقت اللازم لتفهم فكرةً غارقة في غياهب نص مكتوبٍ بلغةٍ لا تعرفها.
لدي إيمانٌ في قرارة نفسي أن خياري ليس خاطئًا تمامًا ولا مُصيبًا تمامًا، ونعم، أدركُ أن لسوق العمل مطالبه التي تفرض علي أن أطور مهاراتٍ إضافية إن كنت أريد إيجاد موضع قدمٍ لي فيه، لكن قدمي الأخرى تقف بثباتٍ ورسوخٍ على أرض مختلفة لا سوق فيها، أرض قوامها الكلمات واللغات وثروتها الأدب والحكايات.
عزيزتي جمانة..
ردحذففي يوم ما ستدركين أن لا شيء يحدث بالصدفة في هذه الحياة إلا إن أردت أن يكون كذلك.
سأعطيك مثالا بسيطا ومن نفس المنظور النيوليبرالي:
عندما يصبح قلمك يكتب باللغة الانجليزية بذات الجمال الذي يكتب فيه باللغة العربية، ستجدين أنك أصبحت قادرة على مخاطبة نصف سكان الكرة الأرضية من خلال مدوناتك وتقاريرك وأعمالك الأدبية الأخرى، وهذا سيرفع قيمتك في سوق الإعلام على أقل تقدير.
معرفة شغفك في مرحلة مبكرة من العمل هو كرم رباني، فلتستمتعي..