كم مرةً حدّقت حولك بعيونٍ فارغة، تفتش بيأس عن إلهام لحكايةٍ ما؟
تُحزنني حقيقة أن هذا الوجود الذي نَحيا فيه زاخرٌ بأسباب الإلهام، إلا أننا نفقد كثيرًا منه في غُثاء أيامنا، وخلال الدولاب المتسارع لحياتنا، هذه -الحياة- التي تهمل جوهر الأشياء وكُنهها ولا تمنح الإنسان ترفًا من الوقت كي يتأمل فكرةً ما ويعالجها فضلًا عن كتابتها، وكم يُهدر الواحد فينا من لحظات إلهامٍ خلال يومه والتي لو اُستغلّت لكانت مادّةً لقصيدةٍ مدهشة.
كل كاتب، أيًا كان نوع النص الذي يحاول إنتاجه، عليه أن يأخذ لحظات الإلهام بأقصى جدية ممكنة، الأمر ليس طرفة ولا فكاهة، فلحظةٌ واحدةٌ مفعمةٌ بالإلهام حين يستجيب لها تمنحه آفاقًا لا منتهية للتحليق.
والكتابة -في حد ذاتها- عملية استدعاءٍ للإلهام، فحين تنغمس فيها ستكتشف أن إلهامك يتكثّف ويتكاثر، وأن أفكارك تتبلور وتنضجُ أثناء كتابتكَ لها، أخبرني كم مرة دفعكَ إلهامك للكتابة عن فكرةٍ ما، ثم حين شرعتَ بالكتابة وجدتَ تلك الفكرة تُداهمك بصحبة قبيلة من الأفكار الأخرى؟
إلا أنك لن تحظى بنص مُكتمل الخِلقَة والصورة في كل مرة تستجيب فيها لنداء الإلهام، سيولد نصك حاملًا في تكوينه جوهر فكرتك، لكنه لن يخلو من عيوب وتشوّهات، وسيظل يطالبك بالصقل والتنقيح وحينها عليك أن تنخرط في دوامة إشباع الفكرة وإرضاء المعنى.
ستظل ملاحقًا من شبح الفكرة، تتّهمك أنك لم تشبعها وصفًا وصياغة، أو أنك قتلتها إسهابًا وتطويلًا، وستظل رهنًا لطيف المعنى، تحاول القبص عليه فتفلح مرة وتفشل مرات.
إننا معشر الكتاب لا مفرّ لنا من العيش بين مطرقة الفكرة وسندان المعنى، هما كل عُدتنا ورأس مالنا.
يمكن إيجاز مُراد كل كاتب في العثور على فكرة أصيلة والقبض على معنى هائم، وكل كاتب يدرك في قرارة نفسه استحالة هذا المطلب، فمع كل هذا الإنتاج الأدبي حول العالم سيكون من السخف الادعاء بأنك طرقت فكرةً لم يسبقكَ إليها أحد، لكن هنا يَتباين الكتاب ويتفَاوتون: في اللغة والمَبنى، لا في الفكرة والمعنى.
يتباينُ أهل كل زمنٍ وأرضٍ في تصوراتهم لحقائق الحياة ومفاهيمها، تبعًا لما تفرضه طبيعة الزمان والمكان اللذان لا فكاك للكاتها عنهما، كما أن كل معنى -مهما كان مطروقًا ومكرورًا- يأخذ من نفس كاتبه وينعجن بذوقه حتى يغدو كأنه جديدٌ أصيل.
يقول الرافعي: "وأي بيانٍ في خضرة الربيع عند الحيوان من آكل العشب، إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم تكاد تكون بعدد أزهاره، ويكاد الندى يُنضرها حسنًا كما يُنضّره. ولهذا ستبقى كل حقيقةٍ من الحقائق الكبرى، كالإيمان والجمال والحب والخير والحق، ستبقى محتاجةً في كل عصر إلى كتابةٍ جديدة من أذهانٍ جديدة"
وعلى الكاتب ألا يخشى تجلّي نفسه وانعكاسها في نصوصه، فهذا ما يجعل نصه أصيلًا فريدًا: خُلاصة نفسه ومكنوناتها.
من يكتب، كُتب عليه أن يظل في طوافٍ أبديّ لقبلة الكمال، وسعيٍ لا ينتهي في مناسك الجمال، -فكل كاتب- بينه وبين إرضاء نصه رحلةٌ سحيقة لا تنتهي بالوصول دائمًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق