الأربعاء، 24 مارس 2021

هل حقًّا نحتاج الشغف؟

من آثام السوشال ميديا تجاه اللغة، أنها استزفت معاني بعض الكلمات وأضافت لها ظلالًا وأبعادًا جديدة "مستهجنة" في غالبها. خذ مثلًا كلمة "بوح" شخصيًا لا أستطيع أن أقاوم الاستفزاز الذي يصيبني إذا ما مرت بي هذه الكلمة، لكونها غالبًا ما تأتي مرافقةً لمشاعر لزجة.

والأمر ذاته منطبقٌ بوضوح على كلمة "شغف" يستحيل أن أقرأ هذه الكلمة بدون أن أستحضر كل هراء التنمية البشرية الذي يدور حولها.
في كثيرٍ من سياقات التنمية البشرية يُقدّم الشغف باعتباره مقياسًا لتقييم جودة -كل- الخيارات في الحياة: اعمل بشغف أو لاتعمل، تعلّم بشغف أو لا تتعلم، احلم بشغف أو لا تحلم، أحِبّ بشغف أو لا تحب. يحيثُ يطلب منا أن نكون متطرّفين تجاه كل شيء، مدفوعين بحماس لكل شيء، وأي هبوطٍ في معدل "الشغف" يُفسّر على كونه إكتئاباً، أو أن خياراتنا كالوظيفة أو التخصص الدراسي .. إلخ كانت خاطئة، لأنها ببساطة لم تُحقق معيار "الشغف"

لنتوقف هنا لحظة ونُقيّم حياتنا اليومية ومدى امتلاءها بهذا الشغف المدّعى، والذي يُطلب منا أن نفيض به وأن يكون هو المحرّك والوقود لاستمرارنا.

إن حاولت إعطاء نسبة لكمية الشغف الموجود في أيامي فسأقول أنه لا يتجاوز الـ 40% وفي كثيرٍ من الأيام وبدون أسباب واضحة تنخفض النسبة بكثير، ماذا يعني هذا -على الأقل بالنسبة لي-؟ هل يعني مثلاً أن دوافعي ليست حقيقيةً بما يكفي؟ أو أني لم أُحسن الاختيار؟

لنتفق مبدئياً أن هذه النفس البشرية أصعبُ من أن تُسبر أغوارها، وأن ما تستلطفه اليوم قد تستهجنه غداً، وأننا قد ننجرف في البدايات بطوفان من المشاعر العارمة ثم لا نجد ونحن في منتصف الطريق ما يُبلّغنا النهاية. لذا سيكون خطأً فادحًا أن تكون المشاعر هي الدافع الذي يُحركنا في أعمالنا واختياراتنا، لا أنفي بالطبع أهمية الاقتناع العاطفي بما نفعله، لكن ببساطة لا ينبغي أن نُعوّل عليه كثيراً. 
والشغف -ككل العواطف- لا يعدو أن يكون "شعورًا" يرافق البدايات، أما الاستمرار وبُلوغ الغايات فيحتاج منا إلى دأب ومبادئ حقيقية، لا شغفًا يعلو ويهبط تبعًا لحالتنا المزاجية.

وفي هذا المقام لعله من المناسب أن أذكر قولًا للأستاذ أسامة الجامع: "تذكر أن تكون قراراتك مبنيّةً على مبادئك وقيَمك، لا على ماتشعر به الآن فجأة"

وليست مصادفةً على الإطلاق عندما يمضي بنا العمر أن نفتّش عن أسباب استمرارنا فلا نجد الشغف من بينها. ثم لنتأمل في كثيرٍ من نماذج النجاح حولنا، سنجدُ أن أصحابها استغنوا عن الشغف في مرحلةٍ ما من طريقهم وحل مكانه مبادئ كانت هي رفيقتهم للغاية.

نحن لا نحتاج الشغف، ربما هذا ليس خبرًا سارًا، لكن هكذا تسير الحياة على مايبدو.

هناك تعليق واحد:

  1. "تذكر أن تكون قراراتك مبنيّةً على مبادئك وقيَمك، لا على ماتشعر به الآن فجأة"، ولذلك يقال في الاستراتيجيات الشخصية والمؤسسية: القيم والمبادئ حاكمة، وليست للزينة ولا لاستكمال نماذج الملفات

    ردحذف