اليوم، بات وعينا وإدراكنا لمُجريات هذا العالم مسلّمةً من المسلمات، صرنا نتعرض يومياً لزخمٍ هائل من أخبار المعاناة حول العالم. وصار "أن لا نعلم" امتيازًا وترفًا، وقرارًا يختاره الواحد فينا عن سبق إصرارٍ وتصميم، وفي كثير من الأحيان صار الانكفاء على الذات والانزواء عن العالم يصنف أسلوبًا صحيًا للعيش.
إن كنت مثلي، غير ناجحٍ تماماً في الانكفاء على ذاتك وحماية نفسك من هذا الزخم الهائل للبؤس العالمي، ستجد نفسك مضطرًّا كل يوم لأنه تخضع أزماتك لمعايير "المعاناة العالمية"، وستعجز عن أن تتعامل مع معاناة أيامك البسيطة بمعزلٍ عن المعاناة البشرية حول العالم ومقارنتها بأكثر صورها قسوةً وفظاعة، فأنت لست جائعًا، ولا معدمًا، ولا مقصوفًا، ولا مشردًا، ولا مسجونًا، أنت إنسانٌ عادي مولود مع حزمة أساسيّات الحياة وربما مع بعض الامتيازات تبعًا للبقعة الجغرافية التي وُلدت بها، لكنك مع ذلك تجد سببًا للحزن والبؤس.
كما يقول صمويل بيكيت: "أنت على الأرض، لا يوجد علاجٌ لذلك"، لا يهم في أي بقعةٍ وتحت أي سماء، فقد تجتمع لنا كل موجبات السعادة لكننا لا نستطيع أن لا نطوّر أسباباً للمعاناة، إذا يبدو أنه ومع كل مستوى نصعدُه في هرم حاجاتتنا الإنسانية نحملُ معنا أسبابًا جديدة للألم. إلا أننا نحن الذين جاوزَت حاجاتنا منتصف الهرم، نشعر بالعار من إطلاق وصف "المعاناة" على مانواجهه.
بغضّ النظر عن التسمية المناسبة لما نواجهه في حياتنا اليومية، خيباتنا، انكسار الصورة اللامعة لذواتنا، انهيار سقف توقّعاتنا، خساراتُنا، في النهاية علينا أن نعطي حزننا بعض المساحة، أن تحزن لا يعني أنك لا تستحق ما تعيش فيه من نِعَم، أو أنك ناكرٌ لعطايا خالقك، إن خوض حزنك مهما كان ضئيلًا وتافهًا هو ما يجعلُك إنسانًا "حيّا"، "لا حي ينجو من العطب" كما قال ابن الربيعة.
حتى تُدرك أبعاد حزنك وتحجّمه، عليك أن تخوضه، لا أن تطويه في غياهب الخزانة وتتجنب النظر إليه في كل مرّةٍ تفتحها. لا بأس، قد يبدو شكلك بائسًا وغير لائق في المجتمعات التي تطالبك كل يوم بأن تكون إيجابيًّا ومبتهجًا. مع الوقت سوف تكبر أنت ويبقى حزنك ضئيلًا، وعندها ستدرك أنه حان الوقت لتستغني عنه.
لم نحزن؟ هذا سؤال فلسفي بحت أعلم، بصفتي إنسانًا عاديًا أستطيع أن أجيب بأن الحزن هو اليافطة التي عندما أعبرُ بجانبها أتذكر أين كنت، وأتنبّه لما كنت في لحظة من اللحظات أعُدّه مسلّمة من المسلمات، أتذكر بأن شعور البهجة -الذي ألِفته واعتدته- ليس دائمًا وأبديًّا. ببساطة، فإن معظم دروس الحياة تأتي عبر بوابة النقيض، وكل معنى ندركه حقّا يكون عبر تجربةنقيضه. نفهم أهمية الصحة عندما نختبر المرض، نشتاق للانشغال عندما يفترسنا الفراغ، نتقبّل الرفقة على علاتها عندما تنهشُنا الوحدة، وكذا البهجة، ندركها عندما نحزن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق