الاثنين، 3 يونيو 2024

عن ندم النهايات

لطالما أخبروك عن جمال الوصول وعن  البهجة العارمة التي ترافقه.

وربما أخبروك أن الدنيا لن تسعك فخراً وحبوراً وأنت ترى زرعك يؤتي ثماره.

ربما أخبروك أنك عندما تصل ستنسى شقاء الرحلة، 
وربما بالغوا وقالوا أن مرارة الطريق ستستحيل حلاوةً في ذاكرتك.

وحتى إن لم يخبرك بذلك أحد..
فالأكيد أنك تدرك كل هذا جيداً وتنتظره، وتتوقع عند وصولك أنك ستجد هذه المشاعر بانتظارك، مثل قميص مكويّ معلق في الخزانة، أو مثل هدية ملفوفة بشريط وردي.
وتدرك أن كل ماستشعر به وإن اختلف وتضارب، فهو ليس إلا أطيافاً من البهجة تتفاوت في ألوانها.

ها أنت هناك، حيث تنبأ الجميع أنك ستصل.
لكن النبوءة لم تكن كاملة.

لأن أحداً لم يخبرك عن وخز المرات الأخيرة: عن آخر محاضرة، وآخر اختبار، وآخر سؤال، عن آخر كوب قهوة، وآخر مرة تظهر فيها بطاقتك الجامعية.

ولعل أحداً لم يخبرك عن الترف الذي كانت تمنحك إياه الجامعة، والذي ستفقده حين تخرج منها لآخر مرة.. لا إلى البيت بل إلى العالم.
ستفقد ترفَ الأمان وأنت تخفي نفسك خلف مقاعد الدراسة.
ستفقد ترف الاختيار، أن تقرر متى تظهر تحت الضوء ومتى تتوارى..
فالعالم خارج الجامعة لن يشاورك، سيصفعك بالضوء من كل مكان حين تقف أمامه وجهاً لوجه.

ستفقد ترفَ الألفة.
ألفة المكان وألفة الوجوه وألفة المفاجئات، فالجامعة حتى مفاجئاتها مألوفة.

ستفقد ترفَ معرفة الوجهة.
أن تعرف كيف ستنتهي مهام اليوم، وماذا ستفعل خلال أسبوع، وأين ستكون بعد شهر.

ستفقد ترفَ ضبط البوصلة، فالجامعة التي ضبطت بوصلتك أثناء سنوات دراستك، لن تمنحك بوصلة مع وثيقة التخرج.
وربما هذا هو أكثر ماستفقد.

سيخبرك الجميع عن الخيارات الواسعة التي لم تمنحك إياها الجامعة.
لكنهم على الأغلب لم يخبروك أنك بعد الجامعة ستقف في مفترقات الطرق وحدك، بلا لوائح ولا خارطة.

سيخبرونك أن ضيق الخيارات في الجامعة هو تضييقٌ لواسع، أو محض لوائح تمارس صلاحياتها.
لكن الحقيقة أن لوائحها كانت تحميك من مفترقات الطرق، وأهم من ذلك: كانت تحميك من حيرتك.

الخميس، 12 أكتوبر 2023

كيف تُشكّلنا القصص؟


للقصص قوةٌ هائلة في تشكيل أفكارنا ورؤيتنا للعالم، يمكن لقصةٍ واحدة مؤثرة أن تغرس فكرةً في عمق عقولنا أو أن تقتلعها من جذورها. منذ جدالات أفلاطون وأرسطو والإنسان يدرك هيمنة القصص عليه وعلى عقله، ولم يكن عبثاً حين قرر أفلاطون أن يطرد الشعراء من مدينته الفاضلة، لأنهم عباقرة القصة الذين يأسرون الألباب.

اليوم، لم تعد القصة مجرد هواية للشعراء والروائيين، أو سلعة يتنافسُ عليها مخرجو الأفلام، غَدَت القصة أكثر من مجرد تسليةٍ تحكيها الأمهات لأطفالهن ليغمضو أعينهم، بل على العكس.. للقصة اليوم سطوةٌ تُغيّب النوم، وتفتح الأعين على اتساعها.

وعلى الرغم من أننا نعيش في عالمٍ يهيمن عليه التواصل المباشر والمعاني الحرفيّة، ولا يتكلم إلا بلغة الأرقام والإحصائيات الدقيقة، ويرى العروض التقديمية الاحترافية الوسيلة المعتمدة للإقناع والتأثير، في عالم كهذا، ربما من السهل أن نُهمّش دور القصة وأهميتها في تشكيل وعينا وتحقيق أهدافنا.

من تجاربي المختلفة في صياغة وتحرير أنواع مختلفة من المحتوى، وبعيداً عن عوالم الأدب الخيالية، وجدتُ أن للقصة قوةً لا يستهان بها في تحقيق أهدافنا التواصلية، على جميع الأصعدة المهنية والشخصية:

- القصص تُحاكي حال السامع:

كم مرةً حضرت عرضاً تقديمياً وفي نهايته شعرت أن موضوعه لا يعنيك بشيء؟ هذا ببساطة لأننا لا تشعر بالتعاطف مع الأرقام والحقائق الخام، وهنا تكمُن قوة القصة! تساعدنا القصص أن تكون في قلب الحدث، حيث تذكرنا بخبراتنا وتجاربنا السابقة، أو على الأقل: تساعدنا أن نشعر بالأشخاص المعنيين وأن نتفهمهم.

- اللعب على الوتر العاطفي:

لا يجب أن ننكر أن العاطفة تلعب دوراً حقيقياً في قراراتنا، والقصة هي أفضل وسيلة للعب على هذا الوتر وتحقيق التأثير العاطفي المطلوب، سواءً كنت تريد أن تخلق شعوراً بالإثارة أو التعاطف أو الحماس، أو حتى إن كنت تريد أن تبني إحساس الولاء لدى جماهيرك، القصة هي وسيلتك الأفضل.

- القصص عتيّةٌ على النسيان:

عد بذاكرتك إلى طفولتك.. كم قصةً علقت بذهنك ولا زلت تتذكرها حتى اليوم؟ ربما ستستحضر صورة سنان أو الكابتن ماجد أو سالي المسكينة! لابد أنك في هذه اللحظة عاودتك الكثير من المشاعر. وهنا بالضبط يمكن سحر القصة! القصص أقوى من النسيان وتأثيرها يظل ممتداً على مدى زمني طويل.

- القصص تبني جسور الثقة:

تفتح القصص نافذةً للتجربة الإنسانية، وتجعل راويها يبدو حقيقياً وقريباً وتلقي الضوء على القيم والمبادئ، حينما تشارك تجاربك الشخصية وتحدياتك وانتصاراتك عبر القصص، ستعزز مصداقيتك في أذهان جمهورك، وتمنحهم فهماً لهويتك، وبالتالي ستبني جسور الثقة بينك وبينهم.

الثلاثاء، 14 يونيو 2022

"من استطال الطريق.. ضعُف مشيه"

مامعنى الوصول بعد فقدان تلك الحرارة التي كانت ترافق خطواتك، وبعد أن تخلّت عنك تلك الطبول التي كان يدقها قلبك ليستحثّ مسيرك؟

مامعنى أن تصل لغاية أفنيت في سبيلها كل شغف، وقدمت لها كل قرابين الرضا.. ثم تكتسف أن تلك الغاية آلت إلى محطةٍ أخرى في دربٍ لا يلوح في أفقه نهاية؟

لطالما أنهكَني القلق حول تلمّس الغايات في مسيري، لطالما أردت أن يكون طريقي واضح المعالم، أن تكون منعطفاتي مدروسة، وأن تكون خريطتي مرسومة، أن أصل في الميعاد المحدد، وإلى الوجهة التي تخيلت.

وكنت اكتشف في كل مرة، أن خطواتي هي التي ترسم الطريق، أن المعالم تتبدّى حين نسلكها، وأن المنعطفات تتمهد حين نأخذها، وأننا نحن، بخوفنا وقلقنا، باندفاعنا وتدفقنا، نحن من نصنع طرقنا.

وأدركت على وجه اليقين: أن الوجهات النهائية لا وجود لها، فللوجهات النهائية ميزةٌ واحدة: وهي نهاية المسير والسعي.


الاستمرار في كثيرٍ من الأحيان مطلب، بدون أن نعوّل كثيراً على جمال الغاية أو نهاب طول الطريق، واستشهد هنا بعبارة لابن القيم رحمه الله:

"من استطال الطريق.. ضَعُف مشيه"